الرياض ، النرجس
    

قيم المتعاثدين : قواعد شرعية وأخلاقيات إنسانية

د.ناصر بن فهد بن دهيم

 

قِيم المُتعاقدين: قواعد شرعية وأخلاقيات إنسانية

القِيم والمبادئ والأخلاقيات هي خط الدفاع الأول والأقوى والأسمى للمجتمعات المدنية. إذا دخلت القِيم النبيلة والأخلاقيات الإنسانية في المجتمع ازدهر وتطور وإذا خرجت منه انحسر وتدهور.

وتبرز القيم وتُشهد في معاملاتنا اليومية وخصوصاً التعاقدية في البيع والشراء. ويزخر تاريخنا الوطني القديم والحاضر ومن قبله إرثنا الإسلامي بقصص النبلاء من التجار من أصحاب القِيم والمبادئ

منهم من يبدأ بعرض عيوب بضاعته قبل ذكر محاسنها خوفا من التغرير بالمشتري

ومنهم من يتلمس حاجات الناس ويُكَيّف سعر بضاعته حسب مقدرتهم

ومنهم من يريد الخير لجيرانه من التجار فلا يبيع بيعتين وجاره لم يبع شيئا.

هكذا ورثنا ثقافتنا في التجارة عبر الحرص على الصدق والأمانة كقِيم مجتمعية لا يمكن التنازل عنها.

وفي زمن العولمة استوطن سوقنا بعض النظريات التسويقية البالية التي صُدرت إلينا وتعتمد على فكر "الشطارة" في بيع الهواء والوهم وإخفاء العيوب وتغرير المستهلك واستغلال ما بين السطور في الأنظمة والسياسات التي طُورت بقاعدة الإباحة في الأصل والبعد عن التضييق.

انتشرت مؤخرا في أسواقنا بعض الممارسات التعاقدية التي تستند على نظريات التسويق غير الأخلاقية وخصوصاً المماطلة في العقود. وإن كان ما يزال أغلب السوق في وطننا محصناً بالقِيم الوطنية والدينية إلا أن هذه الممارسات التعاقدية غير الأخلاقية يجب تسليط الضوء عليها ونقدها حتى لا تزداد وتنمو وتلحق الضرر بالمستهلك والسوق.

ولتوضيح المقصد بالمماطلة في العقود هي قيام بعض مزودي الخدمات والبضائع بتوثيق أوقات تسليم قصيرة في عقودهم وقبض ثمن الخدمة أو البضاعة مع علمهم بعدم مقدرتهم على تنفيذها في الوقت المكتوب في العقد. واستغلال عدم وجود أنظمة تُلزمهم بدفع غرامات تأخير في تقديم الخدمات من جهة، والمشقة التي يواجهها المستهلك في المطالبة بحقه حينما تتم مماطلته من جهة اخرى. حيث أن المستهلك يستصعب اللجوء إلى القضاء ويشق عليه التقاضي جهدا وتكلفة لأخذ حقه، فيضطر المستهلك للخضوع للمماطلة والانتظار لفترات طويلة ليستلم خدماته أو بضاعته التي قد يكون في أمس الحاجة لها. وهنا يحدث الضرر نفسي والمعنوي في قيمة الوقت الضائع مع عدم الاستفادة من الخدمة التي دفع ثمنها مقدما بالإضافة للضرر المادي المتعدي في حال تأخر الخدمة، حيث سيضطر لدفع تكاليف إضافية بسبب عدم الحصول على الخدمة أو تكاليف التقاضي والجهد المبذول فيه للحصول على حق بيِّن وظاهر له.

وتخالف المماطلة قاعدتين شرعية فقهية مهمة وتعتبر من قيمنا ومبادئنا الوطنية والدينية والقضائية وهي:

أولاً: قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" وهي حديث نبوي يُستند عليه في كثير من المسائل الفقهية والشرعية والقانونية. وينقسم إلى شقين "لا ضرر" أي عموم الضرر وحتى الغير مقصود، و "لا ضرار" أي الضرر المقصود المتعمد وحتى لو كان من باب الرد بالسوء على المبتدئ بالسوء فهو ضرر منهي عنه إن لم يكن بسلطة القانون المدني والقضاء.

ويتضح هنا أن المماطلة في العقود سواء كانت بقصد أو بغير قصد ضرر متعدي على المشتري. فإن كانت بغير قصد وجب عليه إزالة الضرر ورد الحق للمشتري فور معرفته بأن تأخيراً عن المتفق عليه في العقد سيحدث. أما المماطلة المتعمدة فهي "ضرار" وفي نفس الوقت "تغرير" والنهي عن التغرير قاعدة شرعية وقيمه من قيمنا الوطنية والدينية والقانونية.

ثانياً: قاعدة "الغرر والميسر محرم في المعاوضات والمغالبات". عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وبيع الغرر. والتغرير لغويا يعني الخداع أو الخطر أو الغفلة. وقد فصلت القواعد الفقهية بين التغرير والغلط كون التغرير يمكن التماسه بأدلة ملموسة حيث يكون فيه قصد واضح بعكس الغلط والخطأ. 

وقد عُرف التغرير التعاقدي بعدة تعريفات كلها تؤكد أن المماطلة في العقود نوع من التغرير. ومن تلك التعريفات: 
في كتاب مختصر أحكام المعاملات عرف التغرير على أنه "حمل المتعاقد على معاوضة بطريقة باطلة تجعله يظن أنها في مصلحته وتُرَغّبه فيها والواقع غير ما يظن". أي أن إيهام المشتري أن الخدمة أو البضاعة ستسلم إليه بسرعة أحد الأساليب التسويقية المخادعة التي تجذب المستهلك وتلعب دور كبير في قرار الشراء وأحد وسائل التغرير.
إيقاع المتعاقد في غلط يدفعه إلى التعاقد (كتاب مصادر الحق). وهنا أيضا تدخل المماطلة كنوع من التغرير بالمشتري يدفعه للتعاقد بعد إيهامه بسرعة التنفيذ.
ومما لا شك فيه أن النظام والمجتمع لا يمانع أن للبائع أو للتاجر الحق الكامل في تحديد وقت تسليم الخدمة أو البضاعة بحسب مقدرته وطاقته بل والأحرى أن يضع مدة إضافية احتياطية تحسباً للطوارئ. كما أن قِيم مجتمعنا وأخلاقياتنا ومبادئنا الوطنية التي ترتكز على الصدق والأمانة والشفافية ومنع الضرر والتغرير وسائل تسويقية أخلاقية ذات قيمة عالية عند المستهلك في المملكة حيث تُولِّد الثقة والولاء والتميز وهذه العناصر هي أساس في النظريات والممارسات الحديثة في تحسين تجربة المستهلك والمستفيد. ولا ننسى هنا أن المماطلة في العقود من الأمور التي تؤثر على جودة الحياة للفرد لضررها المتعدي معنوياً ونفسياً ومادياً، وهو أمر مخالف لرؤية المملكة في 2030 التي وضعت جودة الحياة من أهم عناصرها.

نتطلع كمستهلكين أن تختفي هذه الظاهرة من أسواقنا بدون الحاجة لسن أنظمة تعاقب عليها عبر العودة لقيمنا الراسخة في التعاملات والتمسك بـ "قِيم المُتعاقدين" وتكاتف التجار والجهات الاعتبارية التي تمثلهم لمحاربة هذه الظاهرة الدخيلة في سوقنا ونبذها.

 

كتبه:

د. ناصر بن فهد بن دهيم

 

 

قيم المتعاثدين : قواعد شرعية وأخلاقيات إنسانية
مدونة المستهلك
تبرع سريع